بين السيـاسـة والفـن

جــامعـة مجيـمـو

مـوسـكــــــــو

شعبة اللغات الشرقية

 

 

بين السيـاسـة والفـن

 

عبد الله اليعقوبي

 أبريل 2013

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على سيدنا محمد الرسول الأمين

 

معالي السيد نائب رئيس الجامعة كاسبادين فاليري فوريبييف،

معالي سفير المملكة المغربية الأستاذ عبد القادر لشهب

السيدات الفاضلات،

السادة الأفاضل،

 

بداية، لابد أن أتقدم بكلمة شكر للأستاذ شطانوف، ولكل الصديقات والأصدقاء الروس الذين كانوا وراء تنظيم هذا اللقاء.. ودعوتي إلى مشاركتكم في هذه الندوة..

ولكل هذا الحضور الكريم...

وإنني لأرجو منكم المعذرة، فإذ أود أن أجد العبارات اللائقة لتقديم شكري لكم، فإن كل قواميس الدنيا لن تسعفني للتعبير عما يخالجني من أحاسيس ولبسط مكنوني في هذه اللحظة...

فأن أكون حاضرا هنا والآن.. في رحاب هذه الجامعة العريقة المتميزة.. وبين هذه الثلة من ذوي الهمم العالية من المثقفين ورجالات العلم والأدب.. هو بالنسبة لي شرف وأيما شرف.. وهو بالنسبة لي فخر وزهو وأيما فخر وأيما زهو...

ويمكنني القول بأنه ليس من محض الصدفة أن يلتقي "النحن والهنا والآن".. وليس من محض الصدفة أن تتفاعل عناصر الكون لتأتي بي من رمال الصحراء المغربية السابحة بين أمواج الأطلسي، والمنغرسة في جذور القارة السمراء.. لتفتح لي أذرع مدينة "مسكفا".. هذا المتحف الإنساني العريق على ضفاف "الفولكا"، ملهمة الشعراء والأدباء والفنانين من مختلف المشارب...

فمدينتكم، مسكفا، المناضلة الصامدة أبدا.. المدينة الإنسانية بامتياز سرمدا.. شدتني إليها دروس اللغة الروسية الجميلة منذ ما يناهز النصف قرن عندما كنت آنذاك مراهقا يافعا أنتشي بالجمال وأهفو إلى البهاء والسناء...

وها هي الآن تشدني من جديد، وأنا الكهل المسن، تشدني بنفس الجاذبية وبنفس الأريحية لتجعلني أرتقي في مدارج العلا وأسمو بين أحضان المجد والأصالة... فأعيش معكم وبكم هذه اللحظات الخالدة.. احتفاء بالصداقة، واحتفاء بالإنسان.. الإنسان المجرد المطلق، بدون تمييز عرقي أو ديني أو انتماء سياسي أو عقائدي معين..

فمرة أخرى.. شكرا جزيلا وثناء عاطرا.. لكم جميعا أيتها الأخوات، أيها الإخوة الكرام.

سيداتي، سادتي،

لقد دُعيت لنتبادل الحديث في موضوع جدلي عن علاقة السياسة بالفن التشكيلي..

وإذا كان الموضوع أساسا موضوعا بالأهمية بمكان، فإنني أبوح لكم مسبقا، بأنني ما كنت قط أستاذا جامعيا، ولا محاضرا مبرزا، لأسمح لنفسي بالخوض في عمل أكاديمي من هذا المستوى ومع هذه النخبة..

فأن أتناوله بين أيديكم إن لم يكن تطاولا على الثقافة والفكر، فهذا على الأقل مجازفة، ولكنني، قبلت المجازفة، لأنني ارتأيت أن أجعل من هذا اللقاء تبادلا ومشاركة لتجربة حية أعيشها منذ أن كنت.. وذلك في أطوار متعددة من حياتي وعلى أنماط متوازية ومختلفة..

سأتناول الموضوع إذن من زاوية التجربة الحية، أكثر منه من زاويته الأكاديمية...

لذا سأتطرق في البداية إلى مفهوم الفن في نظري، ثم أدغدغ موضوع السياسة، عسى أن نجد جميعا في خاتمة هذه المداخلة القنطرة التي توصلنا إلى التجميع بين ضفتي الموضوع.. أي بين الفن التشكيلي والسياسة..

سيداتي وسادتي،

لو سَبرنا أغوار تاريخ الإنسانية، منذ أن كان الإنسان، ورغم تباين العقائد ومفارقاتها في أصول هذا الإنسان، فإن الجميع يتفق على معطى أساسي مفاده أن هذا الإنسان حاول دائما أن يجد طريقة للتواصل..

التواصل بين أطراف الجماعة مع بعضها.. التواصل بين الجماعة ومعتقداتٍ توحد هذه الجماعة..

التواصل في نفس الحقبة، أو من حقبة إلى أخرى، وقد تكون هذه الحقب متقاربة بينها في الزمان والمكان، أو متباعدة مع بعضها تاريخيا وجغرافيا..

وقد كانت هناك معتقدات تدفع الإنسان إلى محاولة التواصل خلال حياته وبعد موته مع العالم الآخر. العالم اللامرئي..

وقد تعددت واختلفت طرق التواصل التي بحث عنها، فكونت تلك الفسيفساء اللغوية التعبيرية التي أوجدها خلال تاريخ البشرية منذ أن كانت هذه البشرية..

لغات كثيرٌ منها اندثر وانطوى ولم يعد له وجود الآن.. ولغات حية لازالت تستعمل في الوقت الحاضر إما طبق الأصل لما كانت عليه أو ببعض الاختزال أو بتزايد في المفردات حسب التطور الحضاري برمته...

وعلى هامش ذكر هذه الفسيفساء اللغوية، اسمحوا لي أن أفتح قوسين في موضوع اللغة، فحسب إحصائية دولية أنجزت في أواخر القرن الماضي، تم الوقوف والتعرف على ما يناهز 3000 لهجة، أي لغة، مستعملة كوسيلة تواصل وخطاب في عالم ينقسم إلى زهاء 200 دولة تقريبا...

طبعا كل هذه اللهجات اللغات، ليست لغات حية علمية أدبية بقدر ما هي لغات شعبية في معظمها..

وهذا العدد، 3000 لهجة، يجعل التواصل، أحببنا أم كرهنا، مستعصيا بين أفراد المجتمع الكوني، ويشكل صعوبة في التواصل، أي ما يسمى بالمفهوم الحديث الإعلام.

وأقفل القوسين لأترك لكم المجال للرجوع إلى بحوث ودراسات علماء الانتربولوجيا واللسانيات في موضوع اللغات السائدة في عالمنا اليوم.


سيداتي وسادتي،

في خضم هذا الزخم التعبيري اللغوي منذ أن كان الإنسان، عبَّر هذا الإنسان من أجل التواصل بطريقة أخرى.. فأوصل خطابه على مر الدهور والأزمنة، بقطع النظر عن تاريخ ومكان المخاطِب والمخاطَب..

وذلك بالتعبير الفني.. هذه اللغة الكونية المطلقة.. التي تخاطب وجدان الإنسان قبل أن تخاطب المادة الفيزيائية المكونة له..

وقد تُوخي منها كذلك، وربما أساسا في البداية، مخاطبةُُ القوى الخارقة، القوى الفوقية التي تتعدى مكونات الإنسان جسما وروحا، وتذهب به إلى الأفكار والمعتقدات..

نحن، عندما نتكلم عن التعبير الفني، فإننا في الغالب نقصد التعبيرات الفنية بصيغة الجمع..

ولكنني هنا في هذه المداخلة، أقصد، التعبير الفني التشكيلي فقط..

فرغم أنني أنطلق من مبدإٍ أومن به وهو أن الفن التشكيلي متأصل روحا ولغة وفعلا من مصدر إيتيمولوجي واحد يتمثل في ذلك الثلاثي الذهبي:

"art-architecture-artisanat"

"فن-هندسة معمارية-صناعة تقليدية"

فإنني سأتناسى كل التعابير الفنية الأخرى من موسيقى وغناء ورقص ونحت وتزيين وغيرها من الفنون..

وأركز فقط على الفن التشكيلي...

لذا، إذا قمنا بإطلالة تاريخية على هذا الفن، فسيكون من قبيل شرح الواضح أن أذكر بأن الفن منذ عهود ما قبل التاريخ كان يهدف إلى التواصل.. والتواصل فقط

فبدءاً بالنقوش في الكهوف التي لا يمكننا البتة أن نقول بأنها كانت تهدف في الأصل إلى وضع لمسات جمالية في ذلك الزمان.. لأن الإنسان آنذاك كان همه الأكبر هو البحث عن العيش وعن البقاء وما كان همه أن يبدع لوحات حائطيةً لتجميل المكان..

"فهو بفعله لتلك النقوش، كان يبحث ويقصد التواصل مع قوى خفية لأنه ربما ومنذ آنذاك وهو يتمتع بثقافة روحانية متقدمة تدفعه لمخاطبة قوى فوقية غير مرئية."

Arturo Palma di Cesnola (1985)

ومن قبيل شرح الواضح كذلك، يمكنني أن أجزم بأن الفن التشكيلي في حقبة ما قبل التاريخ وبعدها في العصر القديم، حيث كل الأشكال والأساليب تشهد للحضارات المتعاقبة، عن استعمالها لقاسم مشترك على مر الحقب يتمثل في التعبير بالمادة الفنية..

فكما توصل الإنسان إلى التعبير بالصوت أي بالكلام.. بشكل بدائي في الأول، ثم بالصوت عن طريق اللغة، قبل اكتشاف الكتابة وبعدها.. فإنه كان يتواصل بالإشارة الموموءة والمنحوتة مع ما كان يعتبرها في معتقداته قوة خارقة.. أي مع الآلهة..

فيحاول الكلام مع الآلهة إما بالإشارة أو بالنحت..

ولا مجال للشك في طريقة التعبير هاته التي لازالت النقوش والرسوم الجميلة المصاحبة لمومياءات فراعنة مصر القديمة تدلي لنا بأبهى الصور وأجمل الحكايا وتلقننا الدروس تلو الدروس كلما تمكن علماء الآثار في العصر الحالي إلى اكتشاف بقايا آثار جديدة لحضارةِ أرض النيل..

هذه الفنون من رسوم ومنحوتات ليست أمثلة لفن التزيين والديكور..

"هذا الفن، هدفه ليس جماليا ولكنه عملي.. إنه تعبير عن إيمان قوي ومترسخ موجه كلغة تواصل إلى الخلود وإلى الآلهة" Gloria Rosati (1984)

"في منطقة أخرى، وخلال سبعة آلاف سنة من فن –الأزهار الفاخرة- يبقى الفن بآسيا الوسطى والشرقية مرتبطا بالوظيفة السياسية والدينية على مدى نسيج متشابك يربط "الكونفوشيانية" (Confucianisme) و"الطاوية" (Taoïsme) و"البودية" (Boudhaïsme) مع الكاريزمية الممتنعة للصورة الأمبريالية" G.C. Calza (1983).

لن أطيل عليكم في سرد مقاصد الفن التشكيلي منذ أصول البشرية فالقصد كان دائما كما اتضح قصداً يهدف إلى التواصل المباشر مع المحيط الذي يعيشه الإنسان بكل معطياته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بما في ذلك مفهوم التواصل الديني حسب المعتقدات السائدة المتنوعة التي اعتنقها هذا الإنسان في كل الأزمنة وفي كل الأمكنة... وقد تعدى أزمنةَ وأمكنةَ تلك الحقب ليصل إلى أزمنة لاحقة وإلى أمكنة غير الأمكنة الأصلية...

لذا فإننا نفهم بأن التعبير، بأن التعبير الفني كان يتوق دائما إلى نفس الهدف، أي مخاطبة هذه القوى غير المرئية في المعتقدات الدينية، فحتى عند حضارات الرُّحل وعند الحضارات المحاربة التي ليس لها مجال زمني أو مكاني لتمكين مبدعيها من خلق لوحات فنية من أجل الفن، فإنها كانت تبدع ما يمكننا اعتباره اليوم عن حق تحفا فنية رائعة..

وكان هذا الإبداع موجها طبعا لاستجذاب النصر والتوفيق من الآلهة إما في بحث هذه الحضارات عن الطعام والماء.. أو في حروبها ومعاركها..

وكذلك الأمر أيضا بالنسبة لكل أشكال الفنون الإفريقية وفنون أمريكا الوسطى..

بالنسبة للقارة العجوز وآسيا الصغرى، لابد من الخوض، باختصار شديد، في تحليل التطور الذي عرفه الفن التشكيلي بكل أنماطه من رسم وصباغة ونحت في أوروبا العصور القديمة، بدءا باليونان قبل ميلاد المسيح عليه السلام، ومرورا بالفن "البومبيي"
(art pompéien)، الذي ذهب دائما في نفس النمط لنفس الغاية، وكذا بالفن المصاحب للكنيسة غربية وشرقية بين روما وبزنطة، ثم بالفن الإسلامي، بمحرمات هذه الفنون وبمبيحاتها...

الجميع يذكر أيضا التطورات التي عرفها الفن التشكيلي في مجمله خلال القرون الخمس الأولى لعصرنا هذا، ثم ما حصل خلال القرون الوسطى قرون الظلام والانحطاط، ثم بعدها في عصر النهضة إذ بفضل فن المعابد، توسعت دائرة الفنون التشكيلية وتقدمت مما أدى إلى إنجاب فنان جديد في غضون القرن الثاني عشر.

"ولأول مرة في التاريخ، أصبح الفنان يعتبر شاهد عيان كامل، بكل معنى الكلمة"

Ernst Hans Gombrich

هذا الشاهد بلور لنا الصورة الحية لمعيشة الحضارات المتعددة خلال العصر الحديث وبدأ الجميع يعترف له بهذا الدور.. دور الشاهد على تطور المجتمعات المختلفة التي يعايشها.. فكان تعبيره الفني بمثابة لغة تواصلية أدت دورها في الزمان والمكان الذي يعيشه وأعطت وستعطي للأزمنة اللاحقة وللأمكنة الأخرى الشواهد النمطية الكفيلة بالتعرف على أشكال عيشه وبالتعرف على تاريخ الحقبة المعنية بهذه الشواهد.. وذلك بجمالية ورونقِ وإبداعِ الفنان..

سيداتي وسادتي،

لأن الفنان يعيش في المجتمع، في وسط معين وفي زمان معين، فإنه يصبح يتكلم لغة ذلك المجتمع إذ يتأثر بكل عوامل الزمان والمكان.. فيصبح الفن نشيدا للحياة مع الآخرين.. ويصبح الفن انبثاقا لعمل تاريخي تواصلي يشهد عن الفعل المجتمعي برمته..

فهل نستخلص من كل هذا أن الفن في الواقع غير موجود وأن الموجود الحقيقي هو الإنسان الفنان؟

هذا سؤال فلسفي يبقى مطروحا، وهو موضوع آخر.

سيداتي وسادتي،

قبل المرور إلى القسم الثاني من هذه المداخلة وقد اتفقنا على أن الفن التشكيلي لغة وتواصل، دعونا نتفق على بعض المفاهيم..

أنا شخصيا وأتمنى أن تتفقوا معي، أومن بالمقولة التي مفادها أن ما يسمى بعلم السياسة وعلم الاقتصاد وعلم الاجتماع هي تسميات ثلاثة لعِلم واحد.. فالسياسة والاقتصاد والاجتماع (يقول الزعيم المغربي علال الفاسي) عناصر متشابكة متقاطعة متفاعلة مع بعضها لا يمكن البتة لعنصر فيها أن يكون فاعلا لوحده، دون أن يأخذ بعين الاعتبار العنصرين الآخرين وإلا فلا جدوى ولا فائدة من فعله.

سيداتي وسادتي،

منذ أن خلق الإنسان، خلق معه وعي بالوجود، وعي بـ "أنا"..

هذه الأنا، كلما بحثت عن الحرية، كلما وجدت أمامها عوائق تتعلق بالإمكانيات المادية المحضة وأخرى لها ارتباط وثيق بأنا الآخرين..

وفي هذا السياق، وبطريقة لا إرادية، ومن أجل تحقيق الأنا، تتبلور قوة الذكاء لتتكيف مع الآخر بتلقائية كذلك وتجعل هذا الآخر في صراعه المحتوم من أجل "أناه" هو أيضا، إما يتفوق وإما يستسلم وتصبح "أنا" الغالب فوق أنا الآخر وفي كثير من الأحيان، حينما تتصرف الحكمة ويتصرف المنطق، تنصهر الأناتين لتولد "أنا" المجتمع أي "النحن".. النحن بمصالح مشتركة وبأهداف مترابطة مع بعضها، بضوابط وبنواميس تتبلور أكثر فأكثر كلما تقدم الزمان فكانت الحضارات الإنسانية المتتالية حسب الزمان والمكان..

وخلال حقب التاريخ، وبتوالي الحضارات التي تعاقبت من ازدهار إلى انحطاط لم تمر حقبة واحدة لم تتعامل فيها العناصر الثلاثة الآنفة الذكر مع بعضها للوصول إلى المقاصد المشتركة بل الموحدة التي تهدف إليها لتجعل من كل سياسة لمجتمع ما سياسة هادفة اقتصاديا واجتماعيا.

أيها السيدات والسادة،

لا أعتقد مطلقا أن هناك، منذ أن كانت البشرية، إنسانا ليس له علاقة وطيدة بالسياسة، إما بطريقة مباشرة أو بطريقة غير مباشرة..

قد لا نكون مزاولين لفعل سياسي رسمي يحمل هذا الاسم، ولكننا كلَّنا نقوم بهذا الفعل دون أن نكون مسؤولين سياسيين..

فأنّى كنا في هذا العالم الذي أصبح كقرية صغيرة.. وأنّى كان عملنا اليومي في مهننا المختلفة، بل حتى في أوقات فراغنا، في سفرنا وفي حضرنا، في كل يوم تشرق فيه الشمس وتغيب أو تمتنع عن ذلك، نحن نقوم بفعل سياسي دون امتهانه بمسؤولية رسمية ما، في حكومة، أو في حزب، أو داخل ما يسمى بالمعنى العصري المجتمع المدني من فيدراليات وجمعيات ووداديات ومنتديات ونوادي وغيرها،

نحن نرتبط بهذا الفعل عندما نغادر البيت صباحا أولا نغادره، عندما نذهب لقضاء حوائجنا الخاصة..

نحن في الواقع نرتبط بهذا الفعل منذ خروجنا من رحم أمهاتنا إلى يوم الرحيل الأخير..

بل نحن مرتبطون بهذا الفعل ونحن لازلنا في بطون أمهاتنا وحتى بعد رحيلنا عن هذا العالم.. سياسات الولادة والعقم.. سياسات معدلات الأمل في الحياة.. الموت الرحيم..

أما طبعا.. إذا كنا ممتهنين للفعل السياسي، فتلك مسؤولية مباشرة أكبر وأعظم..

وحينئذ، وحسب موقعنا من هذا الامتهان، عقيدة وفكرا وعملا، تصبح السياسة أمرا ذا تأثير ضخم على أفعالنا اليومية، على ردود الأفعال التي نقوم بها، على علاقاتنا مع البعيد ومع القريب..

وتصبح السياسة نبضا ثانيا في قلوبنا، وبوصلة تتحكم في إرادتنا، ونمط عيش يملي علينا كل الواجبات، وقاموس حياة يجبرنا على التحلي بمفرداته وبمفهومه لهذه المفردات..

أتكلم طبعا عن السياسة السامية النبيلة.. وأقصد تلك السياسة التي يَتوخى الفرد منها إصلاحَ أوضاع مجتمعه، وتنميةَ أفراده، والدفعَ بعجلة الإنسانية ككل إلى ما هو أحسن وما هو أنظف وما هو أرقى...

فرُقي المجتمع لا يحصل إلا برقي الأفراد، وتقدمُ الإنسانية كلها لا يتم إلا بتقدم المجتمعات، كل مجتمع على حدة، وبينها مع بعضها البعض...

أما السياسة السياسوية التي يُقصد منها الوصول إلى المصالح الذاتية الضيقة للفرد وحده دون الآخرين، أو المجموعة وحدها دون الأخذ بعين الاعتبار للمصالح وللحقوق الأخرى للمجتمع ككل، السياسة التي لا تُنمي عند الفرد نوعا من الإيثار، هذه السياسة الغير ملتزمة بروابط الجماعة، الغير متخلقة بقيم الإنسانية المطلقة.. هذه السياسة في الواقع، وإن أحرزت نجاحا ما، فإن هذا النجاح ما فتئ موسوما بالوقتية الآنية وبالتالي بالزوال وبالاندثار..

الزوال إما عن طواعية بطرق سلمية تأتي من الطرف الآخر للمجتمع أو بطرق أخرى تسبب الويلات والدمار قبل أن تُفرِزَ التوازن الاجتماعي الإيجابي المقصود..

سيداتي وسادتي،

كما يقال بأن بداخل كل إنسان طفلا، اسمحوا لي أن أقول، إن بداخل كل إنسان فنانا مختبئا في الأحشاء.

فحسب نجم ولادته، وحسب بيئته التي نشأ بها، وحسب التربية التي منحته هذه البيئة بكل مكوناتها من عناصر ثقافية وحضارية وعلمية ودينية وسوسيو اقتصادية، ينضج الفنان ويتبلور في هذا الإنسان، ويضفي عليه صورة خاصة تصبح مصاحبة له في كل أفعاله المرئية الظاهرة وكذا في إحساساته وعواطفه، وطبعا في تفاعل هذه الأفعال مع هذه الإحساسات..

لذا، فكما أجزمنا بأن الإنسان مخلوق سياسي بالسليقة، نجزم بأنه أيضا مجبول على تصرف ذاتي بطريقة فنية بدأت بلغة بسيطة وانتهت به دائما إلى الإبداع حسب مقدار تبلور الفن في ذاته.. وهكذا تتفاعل السياسة مع الفن في الفرد الواحد، ومنه إلى المجتمع.. المجتمع الصغير أو المجتمع الكوني..

سيداتي وسادتي،

كان بودي أن أدخل في جزيئيات كثيرة من حياتي.. لأعطي بعض الأمثلة عن التفاعل بين الفن والممارسة السياسية.. ولكن المجال لا يسمح بذلك..

لذا أكتفي بالقول بأنني بعد ممارستي للسياسة ببُعْدَيها المباشر واللامباشر وبمفهومها الثلاثي الكامل، وجدتني في مطلع هذا القرن الواحد والعشرين أقرر التوقف عن العمل السياسي المباشر.. بمسؤولياته المعروفة.. وقررت أيضا الامتناع كذلك عن أخذ الكلمة في المنابر العمومية أمام الجماهير..

وذلك لأسباب عقائدية ومبادئية..

أخذتُ هذا القرار.. وضميري مستريح إزاء المجتمع الذي أعايشه..

ولكن الإنسان الآخر الموجود بدواخلي لم يتقبل وضعية اللافعل سياسي..

وبدأ يشعرني بأنني أحمل في أحشائي مشروعا عظيما بدون إرادتي لم ألده بعد ولم أخرجه إلى الوجود..

جاء النداء من دواخلي.. وبدأت أناملي تترجم ذلك النداء وتجعله لمسات إبداعيةً مملاة من "أنا" الأخرى.. أنا غير المرئية.. تلك التي تتساكن في أحشائي وتجعلني أعيش نوعا من الازدواجية..

ففي كثير من الأحيان، وبعد قضاء ساعات كثيرة متتاليةٍ أسابق نفسي في صباغة لوحة ما حتى بزوغ الفجر.. أعود إلى مرسمي بعد استراحة ساعتين أو ثلاث، فأسأل نفسي بنوع من الاستغراب هل أنا حقا من قام بإنجاز تلك اللوحة..؟


 

سيداتي وسادتي،

منذ عشر سنوات بالضبط.. ابتعدت عن الفعل السياسي..

واعتقدت أنني ابتعدت كذلك عن الخطاب السياسي..

ولكنني في الواقع لم أبتعد عنهما ولو ليوم واحد..

منذ عشر سنوات، وجدتني أزاول السياسة بفعل مغاير وبخطاب تواصلي مغاير..

ابتعدت عن الحكومة وعن البرلمان وعن الغرف المهنية وعن المجالس المنتخبة، فدخلت المراسم والمتاحف والمعارض والأروقة..

ابتعدت عن الخطابات في الجماهير، عن كتابة التقارير الرسمية والرسائل المطلبية باللغة المكتوبة والمقروءة، فنسجت قماشات بالألوان..

كانت خطاباتي وكتاباتي تدون باللغة العربية في معظمها وفي بعض الأحيان بالفرنسية، فتصل على الأكثر إلى من يحسن هاتين اللغتين.. فأصبحت رسائلي المفتوحة الملونة على القماشات لا تحتاج إلى لغة بالذات، فهي تقرأ بكل اللغات الكونية.. إنها تقرأ بدون لغة..

لقد عدت أكتب إلى الإنسانية.. بدون استثناء..

ولم تعد هناك حاجة إلى ترجمة خطاباتي إلى 3000 لغة ليقرأها العالم..

لقد عدت أكتب إلى الإنسانية..

أخاطبها من دواخلي..

بلغة "الاسبرانتو" التي تفهمها كل الدنيا..

دون الحاجة إلى لسان..

أو صوت أو كلام..

أناجيها في صمت..

أبوح إليها بمكنوني

أسامرها..

أعاتبها..

أحلق بها بعيدا..

أغنيها نشيدا..

ترافقني في نزواتي..

تعانقني في خلواتي..

نخرج معا إلى الوجود..

نعطي الحياة والأمل..

فنكون قنطرة..

بين القوة المبدعة..

والإبداع نفسه.

سيداتي وسادتي،

وعَوْد على بدء،

كما بدأت مداخلتي سأختمها،

تكلمت عن الفن التشكيلي وعن الرسالة التي حملها منذ العصور الغابرة للحضارات الإنسانية..

فقلت بأنه منذ أن لم تكن هناك حضارة بالمفهوم الضيق للكلمة، كان الفن لغة خالدة.. بحمولتها الفلسفية.. بحمولتها العقائدية.. إذن بحمولتها المجتمعية، فسجل لنا التاريخ.. وأعطانا مادة دسمة نحاول استيعابها..

وقلت بأنه بفضل هذه التحف الفنية الرائعة التي لم تغيرها نوائب الأزمنة..أوصلنا الفن إلى الحقيقة.. إلى الإنسان أي الفنان

تكلمت من جهة أخرى عن الممارسة السياسية.. ووضعتها في خانة الوجوبية المفروضة بل المحتومة على البشرية..

وحاولت أن أقول بأن السياسة قدر البشرية.. وأنه قدر يمكن تكييفه حسب الطباع وحسب الأهواء وحسب النزوات.. أو حسب الأهداف النبيلة والأخلاق الحميدة.. وبالتالي فالسياسة قدر يمكن استغلاله لصالح البشرية.. أي لصالح الإنسان..

وبعجالة أعطيت مثالا حيا لإنسان بسيط استشعر وجود الفن والسياسة في ذاته وحاول توظيفهما معا.. فجعل حياته سياسة فنية ثم فنا سياسيا..

وفهمنا بأن هذه التسميات ليست إلا لعبة كلامية..

فوجودية الإنسان تجعل منه سياسيا وفنانا في نفس الوقت..

وبالتالي ليس هناك مجال للمفارقة..

سيداتي وسادتي،

الفن قبل أن يكون أداة جمالية، هو لغة تواصلية وتعبيرٌ وصفي لحياة البشرية..

والسياسة حالة معيشية تكيّف النمو إيجابا وسلبا في المجتمعات البشرية..

وهما معا ينصهران ويتفاعلان ليجعلا العلاقات البشريةَ تتناغم وتتلاءم ولكن بنوع من المدّ والجَزْر.. لتقدم الإنسانية.. وفي كثير من الأحيان عاش الإنسان ثورات سياسيةً كان الفن مصدرها وثوراتٍ فنيةً كانت السياسة مصدرا لها..

فالفن مرآة لعيش الإنسان، مرآة لسياسته في عيشه.. مرآة لسياسة المجتمع..

وهذه المرآة تساعده على تغيير ذاته لإصلاحها حسب الزاوية المتواجد بها..

وبالتالي، فهي تساعد المجتمع ككل على اتخاذ السياسة الكفيلة لإصلاح هذا المجتمع.. ولو بعد حين..

سيداتي وسادتي،

عندما عُدْتُ إلى مرسمي وإلى الألوان، وقبل أن أنصهر مع القماشة في رسائلي السياسية، وفي تدوين خواطري وإحساساتي حول ما أعيشه في خضم التقلبات التي يعرفها العالم، كان من أوائل لوحاتي، تجسيم لبعض منتوجاتي التي كنت أصنعها... قمت بهذا الفعل بطريقة تلقائية لاإرادية .. لم أفكر ولم أتهيأ لذلك.. جاءت اللوحات لوحدها فارضة نفسها من دواخلي دون أخذ رأيي..

أنا متأكد جدا بأن عُمُر هذه اللوحات بالضبط سيكون أطول من عمر المنتوجات النحاسية التي تجسدها..

أنا متأكد جدا بأن هذه اللوحات ستتواصل مع الزمان لتبلغه تاريخ أمة..

أنا متأكد جدا بأن هذه اللوحات ستبقى خالدة تحكي للأجيال اللاحقة قصة إبداعها...

سيداتي وسادتي،

سأرحل عن هذه الحياة غدا، أو بعد غد، أو بعد سنوات، من يدري؟

ولكن هذه اللوحات ستظل تحمل لكل ناظر إليها حكاية إبداع لفنان عاش في قطر ينتمي جيوسياسيا إلى العالم الثالث ولكنه ضرب عرض الحائط تقسيمَ العالم إلى درجات..

لأنه كان يستشعر فقط بانتماءه إلى الإنسانية...

الإنسانية التي مرادفاتها .. السلم.. الحرية.. المحبة.. الجمال..

تلك في نظري هي السياسة حقا.. وذاك هو الفن حقا..

أشكركم على تفضلكم بالاستماع.

عبد الله اليعقوبي