هل يمكن للفن أن ينقذ العالم؟

بسم الله الرحمن الرحيم،

والصلاة والسلام على أشرف المرسلين

السيدة رئيسة جمعـية حماية الأسرة المغربية،

.....

السيدات الفاضلات،

السادة الأكــارم،

تـلبية للدعــوة الكريمة من رئاسة هذه الجمعية العــريقة،

وما كنت لأرفض طلبــــا من أستـــاذتي للا لطيفة بناني سميريس، إحدى أولى امرأتين بمجلس النواب المغربي، المرأة المجاهدة دوما من أجل هذا الوطن، والمناضلة سرمدا لتحقيق التعادلية الاجتماعية، تربية وأخلاقا وسلوكا.

وإذ أتشرف أيما تشريف بإلقاء كلمتي هاته في هذه الندوة وأمام هذا الحضور المتميز، لأدلي بدلوي حول "التربية على المواطنة" في محور أعتقد أن أهميته لا تخفى على أي مـرب،

فإنني في البداية،

أود أن أستسمح هذا الجمع ذي المستوى الأكاديمي العـالي،

فمداخلتي هي فقط رسالة مفـتوحة، أنتهز هذه الفرصة، لألقيها من موقع تجربتي الشخصية، وأردت لها كعنوان "

 

"دور التعـليم الفني في تكـوين شخصية المواطن"

السيدات والسادة الأفــاضل،

مررت في حياتي بتجارب متعددة، وأنا اليوم في مرحلة عبور إلى ما بعد السبعين سنة،

وخلال هذا العمر، كانت هناك بالطبع جملة من الأسئلة التي تأتي وليدة توقفي ببعض المحطات وتستدعي الإجابة عنها بنوع من التبصر والاستشراف والالتزام.

ومن جملة هذه الأسئلة، سـؤال لازمني منذ أكثر من عشرة سنين، وهو :

-         هل يمكن للفـن أن ينقد العــالم ؟

سـؤال طفا في ذهني بحدة أكثر، بعد خطاب العـرش لسنة 2013، عندما أهاب جلالة الملك بالقطاع الثقافي بأن يأخذ المبادرة ليترجم على أرضية الواقع التنوع الضخم للحمولة الإبداعية بالمغرب،

وكـذا بعد خطاب السنة الموالية (2014) الذي أعطى فيه تعليماته السامية من أجل تقييم وضعية "الرأسمال اللامادي".

ومنذ ذلك الحين بدأ تداول عبارة "الرأسمال اللامادي" بصفة مشاعة واحتضنت في كل الأوساط، واستعملت يمينا ويسارا، عسى أن تحفز الجميع لتفاعل أكثر إيجابية مع هذا المكون الأساس في المعادلات الاقتصادية للمجتمع.

إذ الرأسمال اللامادي مـادة خام تولد مع كل فرد وطريقة استغلالها تمكن من الاستثمار الأمثـل في هذا الفرد لتجعل منه المواطن ذا القيمة المضافة الواضحة، والعكس بالعكس.

وأحيلكم إلى الدراسة التي قام بها أخيرا حول هذا الموضوع المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي وأعطى نتائجها يوم الأربعاء 10 يناير الماضي.

 

هل يمكن للفن إذن، أن ينقــذ المجتمع ؟

سـؤال قد يبدو غـريبا لأول وهلة، ولكنه وضع أكثر من مرة، وأجيب عنه من طرف علماء باحثين أخصائيين في شتى الميادين،

وكان آخــر مـــا أذكـــره جــواب للفنان التشكيلي المبدع الكاتب والباحث الفرنسي المعاصر Michel Saloff-Coste، منذ بضع سنوات.

وإذ يبدو السؤال غير برئ، فإن الإجــابة عنه، لتكون شافية للغليل، يجب أن تنبثق من الدواخل عـوض أن تـنبعــث من المنطلقات السائدة والمغلـــوطة في كثير من الأحيان.

للإجـابة عنه، يجب أن نطلق العنان لمشاعرنا ولأحاسيسنا بكل تلقائية وبكل صدق.

ولعل أكبر دليل عن التلقائية في الجواب والتعبير الصادق له هو أن تبسط بنزاهة فكرية التجربة الذاتية والتي من شأنها، وإذ لا يمكن التعميم المطلق لها، يمكنها أن تعطي مقــاربة حية للحالة المعيشة الفردية والتي قد تضئ الطريق وتنور السبيل إلى التعميم على الجماعة، وهذا هو منطلقي في هذا التدخــل.

هل يمكن للفن أن ينقـذ المجتمــع ؟

سيداتي وسادتي،

نعلم جميعا أن أحداث نيويورك في ذلك الثلاثاء الشنيع ل11 سبتمبر 2001، أنها غيرت مجرى التاريخ، تغيرت نظرة الإنسان للإنسان الآخر، تغيرت كل المنظومات المتعارف عليها دوليا، وأصبح الخوف والرعب والعنف قواسم مشتركة لكل الحكام ولكل الدول.

ولم تسلم بقعة من العالم لم تصلها الرجـة ولم يصلها الوقع السيئ للتفاعلات السلبية مع الأحداث هاته التي تكـــررت، وتعددت في أكثر من بلد وفي جــل القارات،

وأصبحت ردود الفعل باغتصاب الحــريات تجد عـذرها في نزعتها إلى محاربة الغليان ومحاربة التطرف، ويقـولـون محاربة الإرهاب.

والجميع يدرك كل الإدراك أن كل مبالغة أو تطرف من جهة يولد مبالغة وتطرفا أخريين من الجهة المضادة، وهكذا ذواليك.

هنا في المغرب، أرض التسامح والتعـايش والسلم، عشنا بألم شديد أحداث الجمعة الأســـود ل16 ماي 2003،

أحسست شخصيا بجسامة ما حـدث،

أحسست بثقــل المسؤولية كمواطن وشعرت بوخــز الضمير، بالأسى العميق، إزاء إزهاق الأرواح البريئة،

أمام هذا الوضع، وبمسؤولية الكهل، الأب، بل الجـد،

ركنت إلى البحث والتفكير في الحلول الناجعة الواجب اتخاذها لذرئ مخاطر التطرف والابتعاد بالمواطنين عن مخالب الهمجية العمياء التي قد تـنهش أشلاء هذا الوطن الحبيب،

بل كــل الأوطان، بل الإنسانية جمعــاء.

ومن خلال قــراءاتي المتـنوعة، واستحضاري لأحداث التاريخ المحملة في ذاكرة الخلايا للإنسان، والتي عاشتها البشرية خلال الدهور القديمة أو العصور الحديثة أو السنوات القليلة الماضية،

تأكدت من أن الإنسانية، خلال تاريخها، قد اختزلت أنماط متعددة للوصول إلى التقدم البشري بالمعرفة. وأن هذه المعرفة ركبت ثلاثة محــاور : محور العلم، محـور الفن ومحـور الروح.

وطبعا إن جـل المجتمعات البشرية، منذ أن كانت، تغلبت عليها المادة والتقنيات وهي دائما تنتظر وتبحث عن التقـدم من مصدري العلم والتكـنـولــوجــيــا، لا من مصدر آخــــر.

 

فهـل يعـتبر الـفـــن إذن تسلـيــة لا غـيـــر ؟

-         هـل تعتبر كــل علاقـــة بماهية الروح شكلا متجاوزا متلاشيا لا قيمة حية إيجابية له ؟

الـــواقع، إذا اعتمدنـا مثل هذا الحكم، فهذا يعـبر عن جهـل كـبير لتاريخ الإنسانية وللمنبع الحقيقي لخصوبة الأفكار عـند الإنسان.

فكما يقول « Einstein »، "حتى الأفكار الأكثر عمقا علميا تولد في الأصل من الحدس intuition الذي قد يبدو ذا طابع لا مرئي، وهو في الحقيقة نوع من الابتكار أو الخلق الفني".

إذن، يجب أن نفهم أن كل خلق هو إبـــداع، وكل إبـداع هــو بداية لتحـفــة.

إذن، الفـن والأنماط الفنية على اختلاف أنواعها وأشكالها، بطبيعتها الإبداعية، يمكن اعتبارها مناجم لتفتـق التقدم البشري في كـل أبعاد التقـدم.

في بداية القرن الماضي، حوالي 1910، كان عالم النسبية « Einstein » ورائد التحرير النفساني « Freud »، وإمام التشكيل التجريدي « Kandinsky » يتعارفون مع بعضهم ويتبادلون الأفكار بينهم، بينما كانوا ثلاثـتهم لا زالوا مجهولين من طرف العموم. وقد كانت بين الثلاثة، العالم والروحاني والفنان، كانت بينهم تفاعلات فكرية منطقية دفعت بهم، كل على حدة، إلى مستوى النبوغ الذي نعترف لهم به.

واليوم، ونحن تواجهنا أسئلة أساسية جذرية، أسئلة وجـود، يمكننا التأكيد بدون أن نخطئ، بأن عالم الفن وعالم العـلـم وعالم الروح مصادر يجب استدعاؤها، واستدراجها، واستعمالها على أسس وبطرق سليمة لمساعـدتـنا على تجديد رؤيتــنا للعـــالم وتحديد موقفنا من بناء هذا العالم وابتكار الحلول الناجعة لضمان مستقبل الأجـيـــال القـــادمــة.

السيدات والسادة،

نحن ندرك تمام الإدراك، ودون الغـوص في التـــاريخ، بأن الفن تغير من حقبة إلى أخرى، وعرف مفاهيم كثيرة، وعرف بالمفهوم وباللامفهوم بطرق مختلفة (المفهوم المرئي واللامفهوم في خطاب الإنسان مع القوى الخارقة).

فمنذ اكتشافاتــنا للفن العشائري لإنسان المغارات، مرورا بالفن الكلاسيكي، في جل المدارس الفنية، وطبعا حتى الكنائسية منها، ووصولا إلى الفن المعاصر، هناك اختلافات واضحة لا مجال لأن أسبر أغـوارها، ولكن، وفي كل مرحلة، تـتجدد النظرة إلى العالم بفضل هـذا الفن ونصبح نفهم أوجـه التقارب أو التباعـد بين النظرة والنظرة الموالية، أي بين الدروس الأولى التي وصلتـنا وبين الدروس الجديدة التي نتــلقاها، وبالتالي بين الأهداف التي أوصلنا الفن إليها والأهداف التي يجب أن نجعله قنطرة للعبور إليها لبناء المستقبل.

وهنا بالضبط تكمن قـــوة تأثير الفن على الإنسان ومدى أهمية التربية الفنية من أجل الوصول إلى تكوين الفـرد، الوصول إلى تحـديد شخصيته وتكـوين ذاته.

أقـول وأكــرر تكـوين الذات.

فكما يقول علماء الطب النفسي :

"بقطع النظر عن العلاقـــة الجدلية بين الفرد ومجتمعه، إن المشكل الأساس عند كل إنسان، هو البحث ثم الوصول إلى تحديد الشخصية. والشخصية تتكون طبعا بالتراكمات المعرفية ولكنها تتكون أساسا بتلك القدرة على خلق أسلوب شخصي بطريقة ذاتية.

هذه الفكرة تبدو سطحية شيئا ما، ولكننا إذا قارنا بين العملاق « Mozart » وموسيقي آخــر مثلا، فإننا نجــد أن الفرق بينهما هو تلك الطاقة الإبداعية الكـامنة التي تمكن من خلق أسلوب موسيقي جديد.

إن تكوين الشخصية لا يكمن في المجال العلمي أو المعرفي عموما بل في المجال الفني، يكمن في الإحساس الذي يخـلـقــه الـفــن في نفــس الإنسان".

والآن، في المغرب، ونحـــن نعـيـش أزمة المدرسة، كـمــا هو الشـأن في كـثـيــر من البلدان المسماة في طريق النمو، فإننا لو استـلهمنا من هذه الفكــرة نمطا جديدا للمدرسة المغـــربية لأبدعنا في خلق إنسان جديد بشخصية جديدة، إنسان متعلم، إنسان مواطن مترسخ المواطنة، إنسان قادر على الدفع بعجلة النمو.

فعن طريق التربية الفنية، سيتم خلق هذا الإنسان ذي الشخصية المتوازنة الذي ينشد الجمال والرونق والتوازن الاستيتيـقـــي ويميل إلى التعامل السليم، ويتــوق إلى التقدم والرفعة.

الفــن غـذاء للنفس، وسيلة تفـتق العبقــرية الشخصية عن طريق الإلهام والتجربة الروحية، فيكتشف الإنسان اللاوعي الجماعي، ويصل إلى مستوى من السعادة والنشــوة، أرقى من السعادة الآتية من المادة، وأسمى من النشوة الوليدة من الطاقة الملموسة، ويتجاوز الزمان والمكان ليتفتح النبوغ ويصعد إلى مستويات الإبداع، ويصبح محركه الأساسي في فعله اليومي هو ذاك التلاقح بين الذات كمادة والروح التي تكيف الشخصية الحقيقية.

واليوم، والبشرية منهمكة، ونحن على الخصوص في المغرب منهمكون، في انشغالات مادية محضة قيمتها المضافة في النبوغ الفكــري نسبية، لنحن أحوج ما نـكون إلى وقفة تساؤل ومساءلة لإعادة النظر وتقـويم أسلوب تربية النشئ.

فكما ينادي الجميع بتمكين الفرد في المجتمع من الأولويات البديهية طبعا، من غذاء ومسكن وتطبيب، وولوج إلى التكنولوجيا أي إلى العـلم، يجذر بنا أن نجعل من أولوية الأولويات تمكينه بقسط وافــر من إمكانيات استكشاف شخصيته والدفع به إلى النبوغ الذاتي، عن طريق الغذاء الروحي، أي عن طريق الفــن.

سيداتي وسادتي،

في عصر الأنترنيت، ومحركات البحث القوية جدا، يجب أن تكون هناك بالبلدان النامية كما هو الشأن بالبلدان المتقدمة، برامج تعليمية لها علاقة وطيدة بتلقين مبادئ الجمال الحسي والبصري عند الطفل منذ نعومة أظافره.

هذه المبادئ الإنسية المطلقة ستكيف السليقة وستشحذ الذكاء وستيسر التواصل بين أفراد المجتمع، صغيره وكبيره، خاصه وعــامه، دون تمييز ودون إقصاء.

فكما نبرمج في المسالك البيداغــوجية تلقـيـن اللغة المنطوقة للطفـل وتلقـيـن مبادئ تصوير الحرف الأبجدي، يجب أن نبرمج كذلك تلقينه وبشكـل عملي وتطبيقي للمبادئ الأولى للفن بصريا، تشكيليا أو سمعيا أو غيره.

وإذ أتكلم من منطلق التجربة الشخصية، وأنا منتوج المدرسة العمومية من الابتدائي إلى الجامعة خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، يمكنني أن أدلي بشهادة وأن أؤكــد،

بأننا، في ذلك الزمان الغابر، كما كـنا نتلقى دروسنا اللغوية والعلمية والتكنولوجية، وتربياتـنا الإسلامية والوطنية والرياضية، كنا نتلقى دروسا في الرسم الصناعي وفي الرسم الفني والتشكيلي وفي الموسيقى وغيرها من الفنون حسب المؤسسات (كنا نتلقى دروسا حتى في الشطرنج).

وهذه الدروس كونت بطريقة أو بأخرى رجالات أصبحت لهم مكانة رفيعة في مختلف الميادين، بل أهلت بعضهم لأن يصبحوا ذوي شهرة عالمية في هذه الميادين ومن بينهم فنانين مبدعين في حياتهم، في كل الأعمال التي يقومون بها من محض إرادتهم أو توكل إليهم في مسؤولية من المسؤوليات. على الصعيد الرسمي.

من جهة أخرى، تـربوية تكميلية،

يجب أن نلتزم بجعــل هذا الطفـل يلتقي بشكل أو بآخـــر مع التحف الإنسانية الفنية المختلفة لتخليق العملية البصرية لـــديه، ووضع الأسس الأولى لتوازنــه الحسي وللنظـر بعين الجمـال والاستيتـقـيا.

بالإضافة طبعا إلى مأسسة خطاب بيداغوجي نوعي خاص بهذه الفئة من المواطنين لحـداثـــة أعـمارهم.

بهذا التعليم الأساسي، أقــول بهذا الغذاء الروحي والبصري، يكتشف الطفل التحف الفنية المختلفة المتعلقة بحقب تاريخية متـتالية والمنتمية إلى حضارات متعددة مختلفة، فيتكون عنده حينئذ إحساس بمسؤولية جديدة، مسؤولية الإرث الحضاري والثقافي المتعدد الذي آل إليه والذي وصل إلى رؤيته ولمسه وتعـــرف على خطاه.

وتتكون لديه ثروة معرفية فنية ترهف حسه وتسمو بـه فـتجعله يغــار أكثر ما تكون الغيرة على مصير هذا الإرث، وتدفعه إلى صيانته والمحافظة عليه، وعـدم إتلافه.

وهنا تبدأ النتائج وتصبح تربية الروح ذات معنى مــادي إذ نكيف هذا المواطن الكوني الملتزم بصيانة الحضارات والشغوف حسا ومعنى بالسلم والتفاهم بين الأمم والشعــــوب.

ويصبح هذا المواطن الكوني ينبذ التفرقة وكل مسبباتها من صراعات وحروب طائفية أو عرقية أو مذهبية.

نعـــم،

نحن عندما ندفع بالطفل إلى تشغيل أصابع اليد في إبداع فني ما، عندما نصل إلى هذه النتيجة، فإننا في نفس الآن نجعـله يتأثر نفسيا، وأقـــول روحيا، بذلك الإبداع، فنخلق فيه إحساسا بشريا يجعله يقبل الآخــر، ويحترمه ويقاسمه، ويحـــبـه.

عنــاصر كلها ضرورية للإنسان، للفنـان...

عنـاصر تترجم تلك الحــاجة المـاسة الداخلية إلى الإبـــــداع...

عنـاصر تعـبر عن رغــبة في التعامل مع الآخــر بصدق ووفاء للهوية الخــامة للإنسان، الإنسان المبدع تلقــائيا بحكم الطبيعة البشرية.

وبدون مزايدات شكلية، أو خطابات ضغـمائية، يمكن القــول بأن هذا الطفل الذي دأب في تكوينه على تشغيل أصابعه في إبداع فني مــا، لا ولن يشغل هذه الأصابع يومــا مـا في الضغط على زنـاد سلاح لوئــــد البشرية التي تكـون أصلا من أجل الحفاظ عليها وصون هويتها وماهيتها والعمل على الدفع بها إلى التقـدم.

نعــم، في خضم كل هذه التقلبات الجيوسياسية التي يعرفها العالم والتي تنوء به إلى عواصف هوجــاء بين أفراد المجتمع الـواحد، بين أفــراد الدولة الواحـدة، وكذا بين العديد من الدول في مناطق مختلفة،

أقــول نعـــم، يمكن للفن أن ينقذ هذا العــالم.

سيداتي وسادتي،

إن المسؤول الأول في المغـرب، عندما هـب في أكثر من خطاب، إلى التذكير بأهمية "اللامادة" في حياة الإنسان، فإنه وبحكم موقعه في مركز القـرار في هذا العالم قد أبــان بقطع النظر عن الحكمة والتجربة، عن تبصر وحدس كبيرين، لأنه أدرك تمام الإدراك قيمة الثقــافة عموما وجمالية مكوناتها التي تدفع بالمرء إلى نبــذ العدوانية ونبـذ النزاعات وإلى التخلق بالسلم والعشرة الطيبة.

ألـم يقـل Albert Camus عند تسلمه لجائزة نوبل : "لا يجب محــاولة تغيير العالم، يجـب فقط منعـه من الانحــلال"؟

« Il ne faut pas essayer de transformer le monde, il faut juste essayer de l’empêcher de se défaire ».

ومنع العالم من الانحـلال يتأتى في نظري بالتكوين الفنـي.

كل البلدان تئن تحت وطأة هستيريا مؤلمة، وكثير من الدول التي كانت معروفة بالتفتح والتعايش وإنصاف الطبقات والأقليات المكــونة لمجتمعاتها، تعيش الآن في جــو محموم وفي حالة استـنـفـار إذ في أزمة هـوية خطيرة، والمغرب شأنه شأن غيره، لم يسلم من هذه الهستيريا (ولا أريد أن أخوض في الجزئيات).

والحقيقة، إن كل دولة على حـدة، والمجتمع الإنساني بأكمله، يجب أن يعير للفن الأهمية القصوى من أجل الوصول إلى محبة الثقافة الإنسانية، محبة جذور الإنسانية، ماضيها الفني بكل أوجهه من حقب مظلمة ومنيرة، حتى يتمكن هذا المجتمع الإنساني من مواجهة ومجابهة حاضره المؤلم ومستقبله المجهول.

فالعيش معـا... مع الأسرة والعشيرة والدولة والمجتمع الإنساني الكوني، العيش معـا لا يمكن أن يتحقق إلا بالعيش مع الثقافة عموما ومع الفن على وجـه الخصوص،

وذلك لأن الفن يوسع الإدراك بميـاديــن الممكن الإيجابي رغم عدوانية المحيط وخــراب البيئة وسلبية أفكــار المسؤولين.

ولأن العشق الجماعي للموسيقى وللتشكيل ولكل أوجــه الفن يوجب الحوار الفكري بل الروحي ويوصل إلى معرفة الآخـر وإلى تقديره ومحـو كل أوجـه الصراع واللاتفــاهم، ونبــذ كل الحـــواجز التي تدفع إلى التفرقة والعنصرية.

لـــذا، يجب على كل المسؤولين السياسيين والاقتصاديين والاجتماعيين والبيئيين أن يـدركوا تمام الإدراك بأن صحة المجتمع تتمظهر في الصحة النفسية لكل أفــراده وهذه الصحة النفسية تتأتى أولا وقبل كل شئ بالفــن وقد أبالغ، هذه الصحة لا تـتـــأتى إلا بالفـــن.

الموسيقى، التعبير التشكيلي وغيرهما من الفنـون، ليست تثقيفية فقط، إنها دواء مباشر للدماغ البشري كما أظهرت ذلك العديد من الدراسات العلمية الموثــــوق بها.

إن الفن يمنح إمكانية الجمع بين المادة والإحساس عند الإنسان.

ودراسة الفن تمنح ذلك التوازن الفيزيائي والكيميائي الملموس الذي لا يمكن لأي مــادة أخرى من مواد التدريس أن يكــونه عند الإنسان.

سيداتي وسادتي،

في زمـن السرعة، وعصر التواصل ب"الجيكات أو كطي"، أقول وأؤكــد بأن الفنون بكل أشكالها وسيلة للتواصل تظهر أهميتها أكثر فأكثر. ويمكن لهذه الفنون أن تصبح أدوات تواصل للخير والسلم، "أسلحة" للبناء والتشييد والتصالح والتعايش أي للتـنمية.

ولأن الصـدفة لا تـوجــد،

فإن تواجـدنا هنا والآن، مجتمعين لإلقــاء هذا الخطاب أو الإنصات إليه، ولتبادل الأفكــار حول سؤال المواطنة، فذلك لأننا نحمل جميعا هم تربية الأجيال الصاعدة وتكوينها التكوين الصحيح لجعلها قادرة على مجابهة تحولات العالم بتلك القدرة على الانفتاح الذي يمكنه أن يخلق المعجـزات.

فشخصيا أومن بقــــوة المبرد للكلمة، فأعيد القـول بأن انفتاحنــا يوعز إلينا بأن نشتغل على ذواتـنا أولا لنصلحها حتى نتمكن من تغيير الآخر الذي هو رفيق نــد لنا كيفما كانت وضعيته الاجتماعية والمــادية، فهذه مسؤوليتـنـا.

فبهذه الطريقة، وعلى هذا المبـدأ، سنتمكن من مساعدة المواطنين وتحسين وضعيتهم وبالتالي تحسين وضعية مجتمعنا ككــل والوصول إلى خلق المواطن المنتج ذي السلوك القــويم.

إنــه ليس حلما.. إنه واقع ممكــن.

أٌقــول، هذه الوضعية المأمولة ليست بحلم، إنها حالة ممكنة، إنه واقع عشناه في السابق ويمكن العـود إليه،

إذا تمكـنـا بالإرادة، كل الإرادة، من القيام بعملية تجـانس (Osmose)، بين كل أطياف المجتمع لنجعلها عملية بناء جديد للإنسان المغربي، الفنان المبدع أصـلا من أن كــان،

إذا اتفقنا قبل وبعـد كل شئ على أن الفن هو ذاك الينبوع، ذلك الشلال الذي لا ينضب من السعادة للبشرية جمعــاء.

أشكــــركم على حسن استمـــاعـكـــم.