ذاكرة للحنين

بعد تجربة راسخة في فن التصميم بكل منافذه المتعددة ، و بعد ارتياد العوالم النحاسية بكل جبهاتها الإبداعية الفريدة

كرس عبد الله اليعقوبي، الإنسان و الفنان، ما تبقى،

من شرط وجوده للتصوير الصباغي، منصتا بعمق و روية لحدسه، أقصد لرؤيته الباطنية، باحثا عن الأصول في حضرة الكشف و الحقيقة . تراه يستحضر في أعماله الفنية ذات الطابع البصري الحالم تداعيات الزمن و الذاكرة، طارحا بشكل بليغ سؤال الوجود، و كأنه يعيش حالات الحيرة بالمعنى الصوفي للكلمة. أليس الرسم علامات إيقاعية خالصة للوجود بتعبير الشاعر ما لا رميه ؟

متربص بلحظات العشق الطبيعي و الوجد الروحي، هو الفنان عبد الله اليعقوبي الذي تصالح مع ماضيه بكل كبريائه و جراحاته مستدعيا، على طريقة الرواد و الشعراء الحالمين، ما تبقى لنا من شذرات إيحائية، و معالم مرجعية تتخذ من الحاضر هاجسها و بؤرة تأملها. فما يرسمه عبد الله اليعقوبي هو، بحق، ذاكرة للحنين : لحظات متوهجة، لونا و شكلا، تعمق إدراكنا الحسي للأشياء و الكائنات معا. فخارج كل اختبار تجريبي تحت لواء الإبداع المعاصر، يحرص الفنان على سبر أغوار المعنى الخفي الذي يربك مداركنا ، و يحفزنا على خلخلة أجوبتنا الجاهزة. إنه يراهن، بلوعة الباحث المتبصر، على الأصيل فينا: هذا الأصيل المعاصر الذي لا يستقيم معه أي خطاب حول الحديث و الحداثة معا.

هكذا، يشق عبد الله اليعقوبي ، بتؤدة و مكابرة، مساره الفني، منصتا بعمق للغة المواد الصباغية و هي تتناغم مع الإيقاعات الداخلية للألوان و الأشكال التي تسكن عوالم لوحاته التشكيلية ذات المقامات الروحانية المحتفية بالزمن و بالوجود. يقول أبو العلاء المعري في متاهات القول :

فما لي لا أقول و لي لسان       و قد نطق الزمان بلا لسان

ذاكرة ضد النسيان، هي ذاكرة أعمال عبد الله اليعقوبي التي تخترق الحدود و الإكراهات، و تهجس بجوهر العالم و بقيمه الإنسانية النبيلة. فالفنان لا ينشغل بالتمارين الأسلوبية و بالمختبرات التجريبية. إنه يمتح من ذاته كمعادل موضوعي لكيان العالم، مستكنها رمزيته الخالصة التي تنزاح عن كل تشخيص تسجيلي ، أو تصوير طرائفي. تدعونا لوحاته التعبيرية إلى السفر العميق نحو سرائرنا الداخلية، متشبثا في ذلك بسحر الصباغة الزيتية على القماش و على المسند، و مخلصا لبلاغة اللوحة- الإطار. آمن هذا الفنان ذو الحس الشاعري الخلاق بأن اللوحة مرآة الآخر قبل أن تكون مرآة الذات. فهي فضاء لتحرير الطاقات الإبداعية ، و الإقامة في جغرافيات الائتلاف و الاختلاف معا.

متاهة القول التشكيلي

بفضل هذا النقد المزدوج ، و هذا الإخلاص لروح الفن، امتلك عبد الله اليعقوبي، بالقوة و بالفعل ، مكانه الاعتباري تحت شمس الفنون التشكيلية بالمغرب ، مسافرا في أعماق الإبداع و الحياة معا و كأن به يعزف موسيقى الذاكرة التي ترتقي بالروح إلى العوالم السماوية. أليست غذاء كل المحبين بتعبير الشاعر الصوفي جلال الدين الرومي؟

خبر في مستهل مساره الإبداعي كيمياء المادة النحاسية كوجه آخر لبلاغة الموت و الحياة ، و للسيولة و الصلابة، و للحرارة و البرودة ، ثم ارتضى التصوير الصباغي كتابته السيرذاتية العاشقة في صورة طقسية تعج بالأطياف الآدمية ، و بالمؤشرات الأنثوية، و بالعوالم المجنحة اللاهبة التي تشكل البعد العمودي و السماوي للمسالك الرحبة للوحة : مسالك برزخية تعيد التأمل في المسافات القائمة بين المقدس و الدنيوي ، و بين المجرد و المحسوس ، و بين اللانهائي و النهائي ، و بين اللامرئي و المرئي.

كل لوحة عبارة عن ولادة جديدة تحمل نفسا مغايرا على مستوى الأداة و التعبير و الرؤية. إن الأمر شبيه بطقس تطهيري للروح التي تتماهى مع صورة العصافير و المظلات على المستوى الاستعاري. تتماهى النار ، هاهنا، مع النور في حضرة هذا الطقس البصري مفصحة عن مقدمات لتمثل الذات الجماعية و هي تعيش تجربة الكشف و التجلي. إننا بصدد امتداد نوعي و خلاص وجودي. فالفنان يستبطن كيانه الروحي ، و يبوح بهواجسه الجمالية في فضاء متحرر من كل تخطيط مسبق. ففي مرايا العمل الفني ، يجد الرائي ذاته داخل متاهة القول التشكيلي و هو يتماهى مع الشخوص و الوحدات الطبيعية المؤسلبة و الممهورة بحنين الروح. يا لها من متاهة فاتنة منذورة لتعبيريتها شبه التجريدية. متاهة تتكلم لغة التعالي و التسامي، لأنها منتشية بحال العشق الإنساني، و بنشيد الحب و الحرية. ألسنا في حضرة تواطؤ جميل بين الفنان و ثرائه الجواني الذي يسم تجربته التشكيلية؟

باحثا عن الأصول في تخوم الزمن الداخلي ، ينشد عبد الله اليعقوبي نبرات البرزخ بين السماء و الأرض. فكل وحدة مشهدية تنكتب كذاكرة موشومة أو كعلامة مضيئة. إنها تشي بواقع هلامي ينضح بذكرى و بأثر يقاومان العدوى الماكرة للنسيان و المحو. تغدو اللوحة متنفسا بصريا ، و مرتعا خصيبا تتصادى فيه الإشراقات و التجليات على نحو يذكرنا ببلاغة الفيض القلبي التي تتحول على يد الفنان إلى مشهد عجائبي من الأحلام و المقامات التي تجذبه جهة السماء. يا لها من جاذبية سرية تعيد الاعتبار للخيال الخلاق ، و للذاكرة الجوالة، و لفتنة الارتقاء! ألم يشبه جلال الدين الرومي السمو الروحي إلى السماء باندفاع الجنين إلى عالم الحياة؟

تتسم أعمال عبد الله اليعقوبي ، أيضا، بما يمكن أن نصطلح عليه ب " الكيمياء السرية للألوان". فمعالجته اللونية تنم عن اشتغال مكثف على التركيب اللوني ، لأن مبدعه يمتلك ناصية الإدراك البصري لموضوعاته، و يناجي روح أجوائه التشكيلية بكل تبايناتها و تدرجاتها.

لا غرابة ، إذن ، أن تكرم لوحات هذا الفنان العاشق للحياة المرأة، لأنها العتبة الأولى في البحث عن المصالحة مع الذات ، و تحقيق انسجامها و ألفتها مع العالم. فالخيال في حضرة المرأة يحقق معراجه نحو سماوات القيم و الفضيلة. إنها شاعرية متداخلة دلائليا ، حسب تعبير عبد الكبير الخطيبي، فالأنثى ليست امرأة فحسب. إنها استعارة تلخص مظهرا من المظاهر الجوهرية لواقعنا (مظلة ، وردة ، جناح ...) ، و هي لا تقر بحقيقة ، و إنما توحي بقيم رمزية مؤكدة (الحرية ، الألفة ، التسامح ، التساكن ، الحلم...). إنها بالأحرى قصيدة متخلصة من كل يد خطاط لأنها محفل العلامات الملحة و الأدلة المهاجرة كالوشم، و الخط ، و الكتابة ، و الرسم.

كل لوحة مجال للتأمل البصري ، و لاستنهاض الطاقات الحية في مسرحنا الداخلي بكل تلقائية و براءة. كل لوحة تسائل بنية الأدلة ، و تحيل على مخزون "الذاكرة" ، و تصوغ لغة متعددة المعنى تنزاح عن الجاهز و الثابت بوعي مزدوج لا مجال فيه لأي تمثل شقي.

إنه مشروع اللوحة القلبية الذي يحيلنا على مشروع الكتابة القلبية التي تعطي لنصها بعدا إبداعيا متعدد الدلالة. فالفنان يسائل ذاته في الوقت الذي يسائل فيه موضوعه. أليست ذات الفنان هي لوحته كما أن ذات المؤلف هي كتابته؟

يعتبر الفنان عبد الله اليعقوبي مبدعا تلوينيا بامتياز. فهو يؤثث جدلية الداخل و الخارج، و الباطن و الظاهر بحس بصري فريد عصي على الوصف. في تخوم الإدراك الحدسي ، يؤسس هذا الفنان سلطة الحلم و المتعة. فهو يقدم لنا نصوصا بصرية مرحة مشبعة بالنفس الصوفي و الوجداني لكائناتها. هنا يكمن الافتتان و الابتهاج حد الانتشاء(أستعير صورة النهر الطافي للفنان الصيني فانغ هي تشو). إن عبد الله اليعقوبي يمارس لعبة تركيبية، و هذا ما يمثل بريده البصري المحفوظ. يخيل إلي و كأنه يهمس للأذن التي ترى : أصخ السمع... أصخ السمع... أصخ السمع للريشة.

د.عبد الله الشيخ (ناقد فني)